أسلوب الحياة

الأزمة ضيف الموائد الدائم… فهل انتهى الكرم الحاتمي؟

إندبندنت عربية


اشتهر العرب بكرم الضيافة سواء استقروا في الحواضر أو كانوا من البدو الرحل الباحثين عن الماء والكلأ، حينما كانوا يقدمون الغوث لطالبي الطعام والشراب والمساعدة من المسافرين أو التائهين في أسفارهم أو الضيوف والزوار. وكثيراً ما تفاخروا بحجم المائدة التي كلما اتسعت لعدد أكبر من الضيوف مع أنواع مختلفة من الطعام دل ذلك على رفعة صاحب الدار واقتداره وحسن خلقه.

من بين كرماء العرب القدماء حاتم الطائي الذي أقام في جبل أجا الوفير في الجزيرة العربية، ومنح الكرم العربي صفة “الحاتمي” للدلالة على حسن وفادته ضيوفه. وقبل حاتم طيء اشتهرت قريش بحسن استقبال الحجاج في مكة المكرمة حتى قبل الإسلام، إذ كانت بطوناً من القبيلة تتكفل رفادة ووفادة الحجاج وسقايتهم وإطعامهم وتأمين المأوى لغير القادرين منهم.

الضيافة ومنع الأذى

بعض الباحثين والمؤرخين أرجعوا أسباب كرم الضيافة العربية البدوية إلى أنه تكيف مع شظف العيش في الجزيرة القاحلة من جهة، ورداً لأذى ضيف جائع وتائه، إذ تكرس فن الضيافة لمنع وقوع عمليات السلب والنهب ولإنشاء علاقة ودية ومسالمة بين الضيف والمضيف.

وترتبط عادات الكرم وحسن الضيافة لدى الشعوب العربية بعوامل تاريخية واجتماعية وثقافية عدة، فعدا عن أنه على مر الوقت يتم تعليم الأجيال الجديدة أن استقبال الضيوف وإكرامهم يعد واجباً اجتماعياً ودينياً، فإن التقاليد الدينية الإسلامية والمسيحية تفرض إكرام الضيف وإغاثة المحتاج. فمصر على سبيل المثال وجهة عالمية لا تنضب للسياحة التاريخية والثقافية ولاندماج المصريين وسائر العرب بجميع جنسياتهم من القادمين لاستكشاف معجزات الحضارة المصرية القديمة والمنتجعات الحديثة الفاخرة، وعادة ما يصف السياح تجربة الضيافة في مصر بالدافئة والمرحبة، ومن المعروف أن المصريين يتميزون بحسن الضيافة العالي وبروح النكتة التي يتقنونها والتي تنم عن ذكاء يقتصر عليهم مترافقاً مع ابتسامات دائمة.

أسلوب سوفياتي في استقبال الضيوف

علماء الاجتماع العرب شبه متفقين على أن مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الجافة والصحراوية جعلت من الحصول على الموارد أمراً صعباً وكان التعاون والتقاسم مهمين للبقاء، وهذا ما تطور ليصبح صفة في كرم الضيافة وحسن الاستقبال.

برنامج الذكاء الاصطناعي “تشات جي بي تي” أضاف إلى الأسباب الآنفة العلاقات الاجتماعية التي تعتبر مهمة جداً في الثقافة العربية، إذ يسهم تبادل الزيارات واستقبال الضيوف في تعزيز هذه العلاقات والتواصل بين الأفراد والعائلات والمجتمعات. ويفتخر العرب بمختلف انتماءاتهم الدينية بتقاليدهم وثقافتهم، ويرون أن حسن الضيافة والكرم جزء من هذه الهوية، بدءاً من جبال الموارنة والدروز في لبنان المشهورين بالكرم والذي جعل من مناطقهم مقاصد سياحية للوافدين العرب إلى الربوع اللبنانية في فترات الاستقرار السياسي والأمني، وحتى أمازيغ جبال الأطلس المغربية الذين لا يقلون كرماً وحسن ضيافة من أقرانهم اللبنانيين، أو الخليجيين الذين ورثوا صفات قبلية قديمة كان حسن الضيافة في صلبها، لأن عكسه يعني إعلان حرب في أزمنة شظف العيش في الصحراء.

تكريم الضيف حديثاً

يعتبر تقديم وجبات الطعام والمشروبات من أكثر الطرق التي يتبعها المضيفون في معظم الدول العربية للتعبير عن حسن الضيافة، هذا النوع من التكريم لا يزال متبعاً في معظم دول الخليج العربي التي يشهد زوارها بكرم أهلها.

بعد الكرم يأتي توفير أفضل الظروف لإقامة الضيوف كتأكيد لحسن الضيافة والاستقبال، ثم يأتي دور الاستماع إلى قصص الضيوف وأخبارهم ومبادلتهم بمثلها في ما يشبه توطيد أواصر العلاقات الاجتماعية.

يعبر الناس عن اهتمامهم بالضيوف ويستمعون إلى قصصهم وتجاربهم. وأثناء مناسبات الضيافة الجماعية يشارك جميع أفراد العائلة في الترحيب وتقديم الضيافة، مما يعزز الشعور بالترابط والاندماج بخاصة في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات مثل الأعراس والولائم والاحتفالات الدينية والأعياد والمهرجانات البلدية.

من الأمثلة المتنوعة حول أشكال الضيافة العربية عموماً والبدوية خصوصاً، هناك القهوة العربية التي تمثل الجزء الأول من مظاهر ترحيبنا بالضيف، ثم هناك الذبائح والموائد الطويلة والوجبات المتنوعة التي قد لا يتذوق الضيوف معظم أصنافها، لكن السؤال المطروح اليوم هو هل باتت الضيافة العربية تحتاج إلى أن تتماشى مع واقع العصر وثقافته بعيداً من تراث الكرم العربي؟

عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شترواس يعتبر في دراسته المرجعية “أصول آداب المائدة” أن الطهو يشكل الأساس الأول للتطور الثقافي البشري. أما الكاتبة السعودية حزامة حبايب في بحثها عن الضيافة العربية فتقول إن “عادات الطعام أو آداب المائدة لدى البشر بمختلف مشاربهم الجغرافية وتنويعاتهم الإثنية وأمزجتهم النفسية تخضع لمبدأ المشاركة. لا نكتفي بأن نتعاطى معه، أي فعل المشاركة، كفطرة أو حاجة، وإنما نحيله إلى ناموس وآداب وقواعد من شأن كسرها أو انتهاكها أن يعرضنا للنبذ الاجتماعي”.

تاريخ القهوة المدون يبدأ في ديار العرب كما جاء في بحث حبايب، فقد كان العالم والطبيب العربي الرازي أول من ذكر “البن” في كتابه الطبي “الحاوي”، وكان أقدم نص في العالم وصل إلينا ويتحدث عن القهوة هو كتاب “القانون في الطب” للعالم الشهير ابن سينا. وفي القرن الـ14 الميلادي سجل في اليمن أول استعمال غير طبي للبن. بعد ذلك بنحو 100 عام، وتحديداً في مطلع القرن الـ16 كان شرب القهوة قد راج على نطاق واسع في الحجاز، وانتقل على أيدي الحجاج إلى القاهرة ودمشق، وانتشرت فوراً ظاهرة تخصيص أماكن عامة لشرب القهوة صارت تعرف بالمقاهي. ويشير المؤرخ الفرنسي مورادجيا دوسون إلى أنه بحلول عام 1570 كان عدد المقاهي في إسطنبول وصل إلى نحو 600 مقهى. وحتى ذلك الوقت كانت القهوة من سمات الحياة اليومية في العالم الإسلامي، وانتقلت إلى أوروبا على مراحل. وفي عام 1658 بدأ الهولنديون بزراعة البن في سيريلانكا لبيعه في الأسواق الإسلامية.

أما الشاي كرمز من رموز الضيافة العربية الجديدة أو الحديثة نسبياً فقد عرفه العرب من خلال شرق آسيا في القرن الـ10 الميلادي. وعلى مدى القرون الثلاثة الماضية انتصرت القهوة كشراب للضيافة والترحيب على الشاي إلا في الشرق الأقصى والبلاد العربية وإنجلترا. ويرد علماء الاجتماع هذا الاختلاف إلى تمايز في الهوية الخاصة بكل من هذين المشروبين.

أبسط الأوعية التقليدية لغلي القهوة تسمى في بلاد الشام “الركوة”، وفي مصر “الكنكة”، أو الدلة العربية على اختلاف أشكالها، وتعود صناعة الدلة الأولى إلى القرن الـ16 الميلادي، ومنها الصالحانية والبغدادية أو الرسلانية، وهي صغيرة القاعدة وفوهتها متناسبة السعة مع قاعدتها. والدلة الإسطنبولي التي صنعت في العاصمة العثمانية ومنها إلى البلاد العربية تتميز بقاعدة عريضة. وأولى العرب أدوات صنع القهوة أهمية رمزية، فالمهباج لدى بعض القبائل رمز كرامة صاحبه وسيادته. ومن الحكايات المعبرة في المجال يروى أن كليب الشريد، الذي كان شيخ منطقة الكورة في بادية الشام من لبنان، عندما أعلن عصيانه عام 1923 على إمارة شرقي الأردن وقضى الجيش على حركته واستولى على مهباجه، كان أول ما طالب به لتسوية الأمور أن يعيد قائد الجيش المهباج الذي أخذه فأعيد بأمر شخصي من الأمير. وما زال المهباج يستخدم في الاحتفالات الفولكلورية في بلاد الشام، ويذكر في الأغاني والمواويل الشعبية للترحيب بالضيوف فيقال “دقوا المهابيج” في سائر المجتمعات البدوية المتبقية في الشرق العربي، وتعني اطحنوا حبوب البن لتحضير القهوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى