أسلوب الحياة

دكتورة نادية هشام تكتب: تاريخ القهوة والمقاهى


الكثيرونَ مِن عُشاق القهوةِ لا يعلمون سوى القليلِ عنها أو أنها كأي مشروبٍ يتم احتساؤه وتتمتع ببعض التميز عندهم، لكن ليس الجميع يعلم لماذا أصبحت كما يُشاع عنها إنها مشروب المثقفين والمطّلعين وصديقة القُراء، ولا يدرون أنها مرَّتْ بأطوارٍ عديدة ومختلفة منذ بداية ظهورها وتأييد تناولها كمشروب يساعد على الانتباه، لا يعرفون سبب تحريمها وتحليلها والشائعات التي صاحبتها وإنها مُسْكِرَةٌ وما صاحبها من مظاهرٍ عدة  البعض يؤيدها أو يعترض عليها، أو ما سر الأشعار الكثيرة التي أنشدها العلماء والشعراء البعض منها مدح والآخر ذم، حول ذلك ستعرضه السطور التالية.


 


انفردت القهوة عن غيرها من المشروبات بتاريخ ثقافي كبير، أدى ظهورها إلى حراكٍ اجتماعي نتيجة لتخصيص بيوت القهوة المخصصة في تقديمها وما يُصاحبها من مظاهرٍ جديدة مثل الغناء والموسيقى والمسرح.


 


ففي عام 911هـ/ 1511م ضُبِطَت القهوة وهي تُشْرَب بجوار الحرم في مكة وحينها تم تحرير محضر ورفعه إلى العاصمة القاهرة وإبداء الارتياب من هذا المشروب ومن تأثيره والمظاهر المصاحبة لشربه؛ ونتجَ عن ذلك المحضر نشوب الخلاف بين الفقهاء، وأصبح كلُّ فريقٍ منهم يريد إثبات صحة موقفه منها سواء بالرفض أو الإيجاب، حتى وصل الأمر أن بعض الفقهاء أثنوا عليها بالأبيات الشعرية ممن كان لهم اشتغال بالشِّعر، وبالطبع لم يقف الشعراء صامتين وقاموا بإلقاء الشعر وإنشاده في معشوقتهم الجديدة القهوة سواء كان منهم مَن يمدحها أو يذمها، وعليه تشكّل عبر الزمن أدب حول القهوة ومظاهر احتسائها.


 


وصلت القهوة من اليمن إلى الحجاز ومصر والشام في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي وهذه كانت بدايات وصولها، أما واقعة مكة التي ضُبطت أنها تُشرب بجانبها كانت في 1916م/ 1917م حيثُ كشفَ المحضرُ الذي حُرّرَ آنذاك عن انتشار ووصول القهوة قبل سنوات من تلك، والدليل إنها ارتبطت بها مظاهر معينة كما وضح في ذلك المحضر.


 


هذه الواقعة تتلخص في أن “خاير بك” الذي عُيّنَ ناظرٌ على الحسبة بمكة في عهد السلطان قانصوه الغوري-من سلاطين المماليك- (906: 922هـ/ 1500: 1516م) خلال طريقه من الكعبة إلى بيته رأى جماعة تحتفل بالمولد النبوي يتناولون مشروبًا في كؤوسٍ فسأل عن هذا المشروب فقيل له إنه مشروب يُطْبَخُ من قشر حبٍّ يأتي من اليمن ويسمَّى “بُن” وصار يُباع في مكة على هيئة الخمارات/ بيوت القهوة. (عبدالقادر محمد الأنصاري الحنبلي: عمدة الصفوة في حلّ القهوة، مخطوطة في معهد المخطوطات العربية، رقم م 21531، ورقة 28- 29).


 


واستنادًا لما سمعه وعرفه خاير بك جمع علماء وفقهاء مكة لكي يناقش معهم هذا المشروب وما يصاحبه من مظاهر غير محببة ومحرمة مثل الرهان والغناء وخلاصة مناقشاتٍ كثيرة واختلاف الآراء اتفقوا على أن المظاهر والأحوال المصاحبة لها مرفوضة ولكن كحبة ونبات أحالوها وحُكمها الإباحة، معتمدين ذلك لقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا” (البقرة الآية 29).


 


وبعدها تركوا الأمر للأطباء الذين قالوا إن البُن بارد يابس مفسد للبدن وآخرين قالوا إنه مفيد ومحرق للبلغم، ولكن خاير بك اتخذ الرأي وأشهر النداء بمنع تعاطي القهوة (محمد الأرناؤوط: من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، ط1، جداول للنشر والتوزيع، الكويت، 2012م، ص16).


 


ولم يقف الأمر هنا بل تعرض حينها الشيخ “نور الدين بن ناصر الشافعي” مفتي مكة ومدرّسها إلى مصاعبٍ وصلت إلى تكفيره؛ لأنه كان من المدافعين عن القهوة، وبين مؤيدٍ ومعارضٍ لتحليل أو تحريم القهوة بَرَزَ في هذا الإطار شيخ الإسلام “زكريا الأنصاري” (823: 926هـ/ 1420: 1520م) وكان موقفه منها مهمًا لما له تأثير على تلاميذه الكُثُر سواء في مصر أو الحجاز وبلاد الشام، وموقفه كان متقلبًا منها تارة يحرمها وتارة أحلّها، وأقر حلّها بعد مراجعة المولعين بشربها وقرر أن يختبرهم في ذلك، فجاء بقشر البُن وطبخه وأمرهم بشربها وأخذ يتحدث إليهم ويفاتحهم في الكلام ويراجعهم ساعة كاملة فلم يرَ منهم تغيرًا أو طربًا بل وجدَ انبساطًا قليلاً وأكمل معهم الحديث ولكن لم يؤثر ومن هنا أحلَّ شربها (عبدالقادر العيدروسي: النور السافر عن أخبار القرن العاشر، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ، ص260، محمد الأرناؤوط: من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، ص19).


 


أما عن الشيوخ الذين لهم أشعار في مدح القهوة شيخ الإسلام المحدَّث ابن باكثير المكي (905: 989هـ/ 1499: 1581م)







أهلاً بصافي قهوة كالإثمد


 


جليت فزانت بالخمارِ الأسودِ


لما أديرت في كؤوس لجينها


 


بيمين ساقٍ كالقضيبِ الأملدِ


يحكي بياض أنائها وسوادها


 


طرفًا كحيلاً لا بكحلِ المرودِ


 


 


 


 


 


 


وكذلك قطب العارفين الشيخ محمد البكري الصديقي (ت993هـ) الذي أفتى بتحليل شربها وله فيها أشعار منها:








أقولُ لمَن ضاقَ بالهمِ صدره


 


وأصبحَ مِن كُثر التشاغل في الفِكرِ


عليكَ بشربِ الصالحين فإنه


 


شرابٌ طهورٌ ساميّ الذكرِ والقدرِ


فمطبوخ قشر البن قد شاعَ ذكره


 


عليك به تنجو من الهم في الصَّدرِ


وخلّ ابن عبدالحق يفي برأيه


 


وخذها بفتوى من أبي الحسن البكري


 


 


 


 


 


 


 


 


والمقصود هنا بابن عبد الحق السنباطي (ت950هـ/ 1543م) الذي قاد حملة ضد القهوة وتحريمها سنة 939هـ/ 1532م. (العيدروسي: النور السافر، ص329، 385).


 


أما عن العلماء الأشد معارضة للقهوة كان قاضي القضاة ابن الشحنة الحلبي (851: 921هـ/ 1447: 1515م)، وتلميذه محمد بن سلطان الدمشقي مفتي بلاد الشام (870: 950هـ/ 1465: 1543م) الذي كان يتولى قضاء القاهرة في عهد السلطان الغوري نيابة عن أستاذه ابن الشحنة وبالطبع اتبع موقف أستاذه وحرم القهوة، ويقول العلامة أبو الطيب الغزّي في مؤلّف له بخصوص القهوة: إن ابتداءَ ظهورها كان في زمن سليمان بن دَاوُودَ عليهما السلام، وهذا يدل على وجود هذه النبتة أو الحبّة منذ زمنٍ (ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق محمود الأرناؤوط، ط1، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، 1986م، ج10، ص57، 406- 407).


 


استمرَ انقسامُ العلماء بين مؤيدٍ ومعارضٍ وأصرَّ بعضهم على تحريمها مثل الشيخ الحكمي الكازروني، وبعضهم أيدَّ تحليلها مثل الشيخ أبو بكر المكي وألَّفَ رسالة للدفاع عنها تحت مسمَّى “إثارة النخوة بحكم القهوة” وردَّ على الكازروني برسالة أخرى بعنوان “إجابة الدعوة بنصّ القهوة”، ويضاف إلى أنصار القهوة “علي بن محمد العراق” وسُئلَ عنها فأجاب بتحليل شربها بغض النظر عما يشوبها أحيانًا من مظاهرٍ، وتحريمها من البعض لم يمنع العلماء المؤيدون من تعبيرهم وإنشاد الشعر فيها مثل الشيخ أبو الفتح المالكي (ت 975هـ/ 1567م) الذي وصفه الغزّي بأنه كان مُغاليًا فى نصرتها. (الغزّي: الكواكب السائرة، ج2، ص39).


 


وفى نهاية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي أخذت تنتشر بيوت القهوة في دمشق ولم يتحرج العلماء أو الشعراء من الجلوس فيها والإبداع بها والتغني بالقهوة في أشعارهم ومن تلك الأشعار:







إن أقوامًا تعدوا


 


والبلا منهم تأتّى


حرموا القهوة عمدًا


 


قد رووا إفكًا وبهتا


إن سألتَ النص قالوا


 


إن عبد الحق أفتى


 


 


 


 


 


(الجزيري: عمدة الصفوة في حل القهوة، ورقة 24).


إلى هنا لم ينتهِ الخلاف بل نشبَت فتنة كبيرة في مصر نتيجة تحريم ابن عبد الحق السنباطي للقهوة، وذكره لتحريمها في مجالسه بالأزهر فتعصبَ جماعة من العوام وخرجوا من بيوت القهوة من تلقاء أنفسهم من غير أمرٍ، وكسروا أوانيها وضربوا جماعة وقام بسبب ذلك فتنة كبيرة، ولتجنب تلك الفتنة أُحِيلَ الأمر إلى قاضي القضاة “محمد بن إلياس الحنفي” الذي رجع إلى العلماء وأحضرَ جماعة ممن يشربونها وقام بطبخها في منزله وظل يتحدث معهم معظم النهار؛ ليختبرَ حالهم فلم يرَ فيهم تغيرًا أو شيئًا منكرًا فأقراها على حالها؛ لذلك في عهد الوالي الجديد “خسرف باشا” الذي تولى حكم مصر خلال 941: 943هـ/ 1534: 1534م تفشت في زمنه القهوة والمقاهي. (أحمد جلبي عبد الغني: أوضح الإشارات فيمن ولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات، تحقيق د. فؤاد محمد الماوي، القاهرة، 1977م، ص147).


 


وبين التأييد والمعارضة والتحليل والتحريم في شرب القهوة فقد نتج عنها تراثًا أدبيًا ضخمًا من علماء العرب الأجلاء وشعرائها تجمعوا بسببها حول مناظراتٍ وهجاءٍ وتأييدٍ ومعارضةٍ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كثرت وتنوعت الحكايات والروايات حول القهوة سواء في الشرق أو الغرب أي أصبحت جزءًا تاريخيًا يروى بجانب التراث الأدبي.


 


دكتورة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى