أسلوب الحياة

مدينة هرر الإثيوبية جمال أفريقي بنكهة عربية

جمعت بين العلم والتجارة والريادة السياسية وضمتها “يونيسكو” إلى التراث العالمي


مدينة تتعدد فيها سمات الجمال بين التاريخ والسياحة، هنا هرر حيث معالم بلا حدود وطراز خاص يتخذ من قمة تل شرق إثيوبيا موقعاً فريداً على ارتفاع يصل إلى 1885 متراً وتبعد من العاصمة أديس أبابا 500 كيلومتر.

في الماضي كان إقليم هرر يمتد على الحدود الشرقية لإثيوبيا إلى نهر أواش ليشمل قطاعات متعددة من السكان الهرريين والأورومو والعفريين، لكن بعد التقسيم الفيدرالي الجديد للأقاليم في عهد رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي انفصل إقليم هرر وفقاً للتوزيع القومي السكاني ليشمل مدينة هرر كعاصمة له إلى جانب عدد من القرى الصغيرة والتلال من حولها.

بيئة أفريقية

تحيط بالمدينة بعض المرتفعات تتخللها وديان وسهول خضراء موزعة الانبساط وتتميز هرر ببيئة أفريقية ذات مناخ معتدل طوال العام وأمطار تضفي على الحياة رونقاً وطبيعة ينعكسان على السكان بالهدوء وعلى الأرض بخيرات متنوعة.

تضم أراضي عالية الخصوبة وتشتهر بزراعة أجود أنواع الفاكهة كالقشدة والموز الهرري والبرتقال والجوافة واليوسفي والبابايا، علاوة على فاكهة المانغو ذات الألوان المتعددة.

لأعوام طويلة ظلت هرر تشتهر إضافة إلى كل ذلك بزراعة البن، إذ يمثل البن الهرري أجود وأغلى أنواع البن الحبشي ويزرع في المرتفعات كمصدر دخل أساسي للسكان فضلاً عن اعتماد الدولة عليه كثروة قومية.

وإلى جانب ما تجود به أراضي هرر من فاكهة وخضراوات يأتي نبات القات المصادق عليه من قبل الدولة كمطلب من السكان الإثيوبيين في الداخل، إلى جانب تصديره إلى عدد من دول الجوار مثل الصومال وجيبوتي وكينيا.

ملتقى تجارة

كانت مدينة هرر ومنذ تاريخ طويل ملتقى تجارة تربط إثيوبيا بطرق التجارة في القرن الأفريقي إلى جيبوتي والصومال وإريتريا والسودان وصولاً إلى الجزيرة العربية والعالم الخارجي.

ويعود تاريخ المدينة للقرن الـ10 الميلادي حين اشتهرت بالعلم واستقبال وفود العلماء والتلامذة، وعرفت بأسماء عدة مثل “مدينة الصالحين” و”مدينة الأولياء”، وظلت خلال قرون ماضية واحدة من أهم منارات العلم ضمن المدن الإسلامية المعروفة كالمدينة المنورة وبغداد ودمشق.

كلما توغلت في المدينة القديمة تشعر بوقع الماضي وتتنسم عبق التاريخ المرافق للناظرين، وإذا وصفت هرر بمدينة العرب لم تخطئ التسمية فقد ارتبطت بهجرات عدة لعلماء وتجار وزائرين من مختلف الدول العربية والإسلامية، استقر بهم المقام أخيراً في ربوعها وأحدثوا فيها خلطاً مع السكان الأصليين لا يزال له امتداد في أسر عريقة تحتفظ حتى الآن بأنسابها.

مدينة العلم

يقول عادل إبراهيم الهرري، “المدينة الآن توسعت على الأطراف المحيطة بعمران وحركة مدنية حديثة، إلا أنها تحتفظ في داخلها بمدينة هرر القديمة كأثر تاريخي نابض في طابع المساكن وأزقة الأحياء وحركة الأسواق، وتتميز بخمسة أبواب لا تزال حتى الآن معالمها واضحة”.

ويمضي الهرري في حديثه عن المدينة القديمة، “يحيطها سور من الجهات الأربع بطول 3348 متراً وبارتفاع أربعة أمتار على مساحة 48 هكتاراً (الهكتار 10 آلاف متر مربع)، يرجع تاريخه إلى القرن الـ13 الميلادي، وسمّي سور ’جقال‘، وتتحدث الروايات عن اكتمال بنائه في عهد الأمير نوري (1559-1567)، وللسور خمسة أبواب بتسميات عربية ومعانيها التفسيرية باللغة الهررية وهي النصر والسلام وبدر والرحمة والبحر الأحمر، والأبواب الخمسة عند أهل هرر ترمز إلى الصلوات الخمس المفروضة على المسلم”.

وتابع “يصفها أهلها بمدينة العلم لما شهدته من تاريخ حافل بحب العلم، ويجمع حاضرها بقايا تراث وثقافة تنعكس على عادات أهلها في تقاليد أزيائهم المحتشمة عند النساء، كما للرجال أزياء بطراز عربي من كوفية وغيرها، ويتميز أهل هرر بتراث أفريقي- عربي في الفن والغناء، ويقصد المدينة القديمة الزائرون من الداخل والخارج للوقوف على ماضيها، فضلاً عن التبرك بالشيوخ وزيارة الصالحين مثل ضريح الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي يؤكد أهل المدينة مجاورته لهم”.

ضريح أبادر

عادل إبراهيم الهرري أحد المهندسين الإثيوبيين العالمين بتاريخ مدينة هرر يحكي أيضاً أن “من المعالم البارزة كذلك ضريح الشيخ أبادر الذي يتوسط المدينة والذي يزوره الأهالي في المناسبات الإسلامية كافة، وداخل المزار توجد مدرسة لتعليم الأطفال والدارسين القرآن والحديث والعلوم الإسلامية”.

وقال، “في المدينة هناك متحف أسسه حديثاً أحد أعيان المدينة ويدعى عبدالله شريف يعرف الزائرين بتاريخها إلى جانب ما يضمه من وثائق وكتب تراثية ومخطوطات وأدوات ترجع إلى مئات السنين، وفي مقدمة كل ذلك نسخ مخطوطة من القرآن الكريم تعود لتاريخ قديم يحتفظ بها أهل هرر ويتوارثونها جيلاً بعد جيل”.

وأضاف، “تعداد سكان هرر يقدر بـ 210 آلاف نسمة وفق تعداد عام 2012، يتشكلون من قبائل هررغى ويمثلون 7.1 في المئة، إلى جانب السكان الآخرين من قوميات الأورومو والأمهرة والصوماليين والعرب، لكن قبيلة هررغى وعلى رغم قلة عددها تدير شؤون الإقليم عبر حكومة من أبناء القومية”.

ريادة سياسية

بدوره، اعتبر المدير الأسبق لجامعة أفريقيا العالمية والمتخصص في شؤون القرن الأفريقي حسن مكي أن “هرر جمعت بين كونها ملتقى علم وتجارة إلى جانب ريادتها في السياسة، إذ إنها شهدت انطلاق حركة الزعيم الحبشي- الصومالي الإمام أحمد إبراهيم الغازي (1507-1543) الذي استطاع من مملكته فرض هيمنته على كل الأراضي الحبشية”.

وقال “ولد الإمام أحمد إبراهيم الغازي الملقب بـ”أحمد جران” في قرية هوبت في إقليم شوا بين منطقة قلديسي وهرر عام 1506، وشهدت فترة شبابه صراعاً بين الممالك الإسلامية ما بين هرر وساحل البحر الأحمر، إلى جانب حروب وصراعات مع ملوك الأحباش الصليبيين في الأجزاء الأخرى من الحبشة، وبدأ حياته السياسية بزواج إحدى بنات الأمير محفوظ والانتساب إلى أسرته”.

تشبع “جران” بالثقافة الإسلامية على أيدي علماء هرر، وبعد موت الأمير محفوظ الذي تولى الحكم ما بين 1488-1518 وتسلّم الأمير أبون الملك صار “جران” أحد القادة في المدينة، لكن بعد مقتل الأمير في معارك التنافس مع الممالك الأخرى ذهب إلى مسقط رأسه في هوبت، وهناك أخذ يجمع أنصاره من المجاهدين وسرعان ما فرض سيطرته وآلت إليه الأمور في كل منطقة هرر وتوسع ملكه ليضم معظم الممالك الأخرى.

وروى مكي أنه “عام 1532 سيطر أحمد جران على معظم أراضي الحبشة وامتد ملكه ليشمل معظم البقاع التي كانت تحت سيطرة الأحباش الصليبيين”.

واستنصر ملوك الأحباش بعد هزائمهم المتلاحقة بالاستعمار البرتغالي الذي كان منافساً للإمبراطورية العثمانية، وبدعم تسليحي بالبنادق الحديثة والمدافع من البرتغاليين الذين كانوا يسيطرون على البحر الأحمر وقتها اختل توازن القتال لمصلحة ملوك الأحباش وقتل الإمام أحمد في معركة زنطرا عام 1543 ليؤول الأمر إلى ملوك الحبشة.

وقال المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، “في القرن الـ18 الميلادي، أرسل إليها الخديوي إسماعيل حملة مصرية استولت عليها عام 1875، وظلت هرر تحتفظ بمكانتها الدينية، وخلال الحكم المصري انتعشت في النواحي الاقتصادية والعلمية، وبنى فيها الخديوي إسماعيل مسجداً ضخماً تحول إلى كنيسة خلال فترة الانهيار الذي شهدته على عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي (1892-1975)”.

بالعودة لعادل الهرري يذكر أن “مدينة هرر تشتهر أيضاً بصفة غريبة في مغامرات أهلها مع الضباع الذين يشكلون معلماً سياحياً بارزاً في الوديان المحيطة بالمدينة، بحيث اعتاد الأهالي إطعامها والاحتفاء بها في مواسم معروفة، بخاصة في مناسبة عاشوراء من كل عام، فتتجمع الضباع من مختلف الوديان تنتظر تقديم الطعام في هذه المناسبة كالمعتاد”.

ولأهميتها أدرجتها منظمة “يونيسكو” في قائمة التراث العالمي عام 2006 كرابع مدينة مقدسة للإسلام، إذ إنها تجمع 82 مسجداً ذات تاريخ قديم، ثلاثة منها ترجع للقرن الـ10 الميلادي، وفيها ما يتجاوز المئة من الأضرحة وقبور الصالحين.

وشهدت هرر حديثاً تعاقب عدد من الملوك الأحباش، أشهرهم منليك وهيلا سيلاسي إضافة إلى تغيرات عدة، لكنها وعلى رغم ما أحدثته فيها الأيام من طمس لمعالمها تظل تحتفظ بطابعها العربي- الإسلامي وجمال طبيعتها وخصائص وتقاليد أهلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى